بدأت الأحداث تتحرك حاليًا فى منطقة بحر الصين الجنوبى، خاصة بين الولايات المتحدة والصين.. ولأن الولايات المتحدة تعتبر نفسها حاليا القوة العظمى فى العالم، فإن لها مصالح مهمة فى بحر الصين الجنوبى على أساس التواجد الفعال العسكرى والسياسى والاقتصادى هناك، بهدف استمرار مرور التجارة الأمريكية فى هذه المنطقة من العالم، والتى تقدر بمليارات الدولارات سنويا، والثانية أن الولايات المتحدة حاليا تهدف إلى استقرار هذه المنطقة والحفاظ على تعهداتها تجاه حلفائها فى منطقة جنوب غرب آسيا، خصوصا أن هناك نزاعات حدودية كثيرة فى المنطقة، منها الجزر المتنازع عليها بين دول بحر الصين الجنوبى، حيث يتسم الموقف الأمريكى حاليا والمعلن دائما بـ«الحيادية» تجاه هذه النزعات، والدعوة لاحترام القانون الدولى.
ومن هذا المنطلق، تحاول الولايات المتحدة أن تحافظ على حرية الملاحة الدولية فى بحر الصين، على أساس تواجد بحرى أمريكى فى بحر الصين. وتعتبر أمريكا أن ذلك لا يمثل تهديدًا للصين أو مساسًا بسيادتها، فى حين تعتبر الصين أن هذا البحر ومعظم الجزر القائمة به جزء لا يتجزأ من الإقليم الصينى، حيث تعتبر الصين أن مياه بحر الصين ولمسافة 12 ميلا بحريا من الشاطئ هى مياه إقليمية صينية، لا يجوز لأى طرف دولى التدخل فيها أو الاقتراب منها إلا طبقا للإجراءات التى ينظمها القانون الصينى.
لذلك من هذا المنطلق، بدأت الولايات المتحدة العمل على ضرورة التواجد البحرى الأمريكى فى هذه المنطقة، حتى لا تنفرد الصين بكونها القوة الرئيسية المسيطرة بحريا على منطقة بحر الصين، وحتى لا تفقد أمريكا الهيمنة التى كانت تتمتع بها من قبل.. لذلك من هنا بدأ الصراع الخفىّ بين القوتين الصينية والأمريكية للهيمنة على هذه المنطقة من العالم.
ولقد ظهرت فى هذه المنطقة العديد من النزاعات، مثل مطالبة اليابان بالجزر التى استولت عليها روسيا، ثم نزاع الفلبين حول الجزر الموجودة فى بحر الصين الجنوبى، خصوصا أن هناك اتفاقية دفاع مشترك بين الولايات المتحدة والفلبين، وذلك عندما كانت زيارة نائب الرئيس الأمريكى كامالا هاريس مؤخرا للمنطقة، أعلنت أن أمريكا ملتزمة بالدفاع والتعاون العسكرى لحلفائها فى المنطقة، بما يمثل إشارة واضحة للصين، ويدفع الفلبين للتمسك بحقوقها وأن تقف فى مواجهة النفوذ الصينى فى المنطقة.
وأعتقد أن اللقاء المشترك الذى يجمع بين وزيرى الدفاع الأمريكى والفلبينى جاء عقب لقاء القمة المهم بين الرئيسين الأمريكى والصينى فى إندونيسيا على هامش قمة الـ 20، حيث أكد الدعم الأمريكى للفلبين.. ونتيجة لكل هذه الأحداث فى المنطقة، بدأت الصين دعم قواتها العسكرية، حيث أعلن الرئيس الصينى شى جين بينغ فى حديثه للمؤتمر الوطنى الـ20 للحزب فى أكتوبر 2022 أن الصين تعمل على تكوين جيش على مستوى عالمى، وشدد على الحاجة إلى الحروب الإقليمية، وكان يقصد بالطبع النزاعات الحدودية بين الصين والدول المجاورة، خاصة المتحالفة مع الولايات المتحدة الأمريكية، ويقصد بها اليابان فى بحر الصين الجنوبى، والنزاع الحدود البرى بين الصين والهند.
ولقد زاد التباعد الصينى الأمريكى فى الفترة السابقة نتيجة تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، عندما رفضت الصين الانضمام إلى تطبيق العقوبات الغربية ضد موسكو.. ورغم تأكيد واشنطن أن الصين لم تقدم الدعم العسكرى خلال هذه الحروب إلى روسيا، ولكن على الطرف الآخر فإن هناك من يحاول إشعال التوتر فى المنطقة بالإعلان عن أن الصين تسعى من خلال انشغال الولايات المتحدة بالحرب بين أوكرانيا وروسيا إلى أن تستغل الموقف بغزو تايوان عسكريا واستعادتها بالقوة، وذلك على الرغم من أن الولايات المتحدة هى التى قامت باستفزاز الصين من خلال زيارة نانسى بيلوسى زعيم مجلس النواب الأمريكى إلى تايوان فى أغسطس الماضى. كذلك يعتبر البعض أن تعثر روسيا فى حربها ضد أوكرانيا حاليا قد يستغله الغرب لترهيب الصين بعدم الاقتراب بالإقدام على احتلال تايوان عسكريا. ورغم إعلان بايدن عدة مرات أن الولايات المتحدة تلتزم بمبدأ الصين واحدة، وكذلك بعدها أشار إلى إمكانية استخدام الجيش الأمريكى قواته لحماية تايوان، فإن هذا الأمر دفع بكين إلى إجراء تدريبات ومناورات عسكرية غير مسبوقة فى مضيق تايوان، وحول الجزيرة.
وعلى الطرف الآخر، قامت واشنطن بعدة تحركات أمنية عسكرية بالتعاون مع حلفائها فى منطقة المحيط الهندى والمحيط الهادى، بهدف تطويق الصين، وعلى رأس ذلك جاء اتفاق أوكوس الأمنى، الذى تم الإعلان عنه فى سبتمبر 2015، وهو عبارة عن شراكة أمنية بحرية بين أستراليا وإنجلترا وأمريكا، يتضمن تزويد أستراليا بالتكنولوجيا الأمريكية لبناء غواصات تعمل بالطاقة النووية، حتى تتمكن أستراليا من مراقبة التحركات البحرية الصينية فى جنوب شرق آسيا. ولقد اعترضت الصين على هذا الاتفاق، كونه ينتهك معاهدة عدم الانتشار النووى.
هذا بجانب قيام واشنطن بإحياء الحوار الأمنى الرباعى «تحالف كواد»، الذى يضم الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا، حيث تستخدم الصين هذا التحالف لخدمة كافة الأطراف فى المنطقة، بهدف احتواء الصين فى منطقة آسيا والمحيط الهادى.. لذلك قامت الصين مؤخرا بتحديث قواتها العسكرية، حيث أصبحت الصين حاليا تمتلك أكبر قوة بحرية فى العالم من حيث عدد الوحدات البحرية، متفوقة على الولايات المتحدة الأمريكية، فقد نجحت فى تطوير وتصنيع ثلاث حاملات طائرات جديدة من الجيل الثانى من حاملات الطائرات، والتى تشكل نقلة نوعية. وصل حجم القوات البحرية الصينية إلى 250 ألف جندى، كما تمتلك الصين حاليا عدد 6 غواصات نووية، و48 غواصة تكتيكية تقليدية، و80 مدمرة وفرقاطة، وعدد 209 مقاتلات ساحلية. وبالنسبة للقوات الجوية هى الأكبر فى شرق آسيا، وثالث أكبر قوة جوية فى العالم، وتمتلك الصين حاليا 350 رأسًا نوويًا، أى ضعف ما كانت تمتلكه أيام الحرب الباردة. وتقدر المخابرات الأمريكية أن الصين تعمل على زيادة هذه الأعداد لتصل إلى 400 رأس نووى بحلول عام 2027. وبالنسبة للقوات البرية الصينية فيصل حجمها إلى مليون جندى. وقد استحدث الجيش الصينى وحدة الدعم الاستراتيجى التى تختص بتطوير الأسلحة التكنولوجية، ولقد زادت ميزانية الدفاع الصينية لتصل إلى 229.4 مليار دولار بعد أن قامت بالتركيز على التقنيات المتقدمة لتطوير كافة وحدات الجيش الصينى، بما فيها تطوير الذكاء الاصطناعى وقوات الفضاء العسكرى الذى تتنافس فيه حاليا مع أمريكا وروسيا.
وتشير التقديرات إلى أن الصين تسعى لأن تصبح القوة العسكرية الأولى فى العالم عام 2050، كما تسعى الصين إلى توقيع عدد من الاتفاقيات العسكرية مع الدول الأخرى، مثل الاتفاق الذى تم مع دولة جزر سليمان جنوب المحيط الهادى، والذى يتيح للصين حاليا نشر قواتها فى هذه الجزر، هذا الأمر أزعج الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا خوفا من توسع الصين وتواجدها العسكرى فى هذه المنطقة.
من ذلك كله نرى أن هذه المنطقة من العالم سوف تشهد مستقبلا صراعا شرسا، نظرا لعدم الاستقرار الدولى والإقليمى فى هذه المنطقة، خاصة أن الصين تشعر أن هناك تهديدا مباشرا ضدها من الولايات المتحدة، وإن كنت أشك أن الصين سوف تقوم بأى عمل عسكرى فى الفترة القادمة حتى تستمر فى الحفاظ على التقدم الاقتصادى الذى أصبح يقترب من التقدم الاقتصادى الأمريكى، الذى تحاول أمريكا حاليا بكل الطرق إيقافه حتى لا تتفوق الصين اقتصاديا على الولايات المتحدة.
من ذلك كله، تهدف الصين حاليا إلى عدم الدخول فى أى نزاعات عسكرية قادمة، لتهيئة الأمور لتحقيق تقدم عسكرى واقتصادى تتفوق فيه على الولايات المتحدة عدوها اللدود مستقبلًا.
* نقلا عن “المصري اليوم“