ما يجرى على المسرح الأوروبى، اليوم، بين روسيا والغرب، هو نوع من ألعاب الخداع الخطرة. مناورات معقدة على مستوى عالٍ، ذات جوانب نفسية وعسكرية واستخبارية، تعكس التعقيد الكبير للحروب الحديثة. كان مُدهشًا، مثلًا، أن نستمع لأعلى المسؤولين الأمريكيين يتحدثون عن غزوٍ عسكرى روسى وشيك لأوكرانيا. أغلب الظن، كما يبدو من جدية الحديث، أن لديهم معلوماتٍ موثوقة تصب فى هذا الاتجاه. حديثهم العلنى على هذا النحو ربما يكشف، من جانب آخر، عن مناورة معقدة ينخرطون فيها فى مواجهة الزعيم الروسى بوتين. هو يسعى لأن يخلق ذريعة ما لغزو بلد مستقل، ويعمل الأمريكيون فى المقابل على إسقاط هذه «الورقة» من يده بكشف أهدافه أمام العالم، باعتباره قوة غزو واحتلال، ولا شىء سوى هذا. ربما يعرف الأمريكيون كذلك نفسية الزعيم الروسى، التى تهفو إلى التحكم فى الخيارات ومفاجأة العالم بما هو غير متوقع. لذلك يعمدون إلى «تبويخ» لعبته بالكشف عن مخططاته أمام العالم.. أو ربما هم يهدفون إلى إقناعه بأنهم يرغبون فى «توريطه» فى غزو أوكرانيا، فيدفعونه إلى التفكير مرتين قبل أن يفعلها!.
غزو أوكرانيا ليس عملًا سهلًا. إنها بلدٌ كبير. سكانه 40 مليونًا. صحيحٌ أنه منقسم على ذاته تاريخيًا، بين الغرب وروسيا. صحيح أن وشائج قديمة تربط كييف بموسكو، باعتبارها كانت منبت الدولة الروسية، وأن قسمًا كبيرًا من سكان أوكرانيا يتحدث الروسية. ولكن صحيحٌ كذلك أن الشعور المعادى لروسيا راسخٌ لدى شريحة كبيرة، ربما تشكل الأغلبية، من بين سكان أوكرانيا. لذلك فإن إسقاط حكومة البلد، واحتلاله بصورة كاملة، لن يكون عملية سهلة، سواء من الناحية العسكرية أو السياسية.
غير أن علينا ألا ننسى أن روسيا أتقنت هذا النوع من العمليات.
ربما تكون هى الدولة الأكثر تفوقًا فيه فى عصرنا الحالى. من الواضح أنها تُحضر لعملية خاطفة، تشترك فيها قوات الحرب المعلوماتية والسيبرانية، على نحو يشل الاتصالات فى عموم أوكرانيا. لا يُستبعد كذلك عمليات اغتيال موجهة لقيادات المقاومة، وغارات تمويهية يقوم بها محاربون روس يرتدون الزى الأوكرانى، وعمليات تشويه معلوماتى تستهدف المجتمع. محصلة كل هذا أن تحدث حالة كبيرة من التشويش على الصعيد العالمى، وبحيث لا يستطيع أحدٌ الوقوف بدقة على ما يجرى على الأرض، قبل أن ينقشع الغبار فى نهاية المطاف عن حكومة عميلة موالية لموسكو على سدة السلطة فى أوكرانيا، وهو ما يعنى احتلالًا فعليًا.
ليس هذا السيناريو تخيليًا. الواضح أن موسكو تُمارس ألعاب خداع استخباراتى مختلفة، على مستوى عالٍ، حتى إن رئيس أوكرانيا «زالنسكى» يبدو وكأنه مقتنع تمامًا بأن بلاده لن تتعرض للغزو، بل هو يحاول جاهدًا تخفيض حالة الذعر التى يثيرها الأمريكان حول موعد الغزو المحتمل. من أين جاءه هذا اليقين بعدم وقوع الغزو؟ أغلب الظن أن الروس قد أقنعوه بذلك، وأفهموه أنهم يناورون فقط للحصول على تنازلات. ورغم أن المخابرات الغربية، والأمريكية بالذات، تُطلع الرئيس الأوكرانى على حصيلة ما توفر لديها من قرائن تُشير إلى قرب وقوع الغزو، فإنه لا يبدو مقتنعًا! وليس ذلك سوى دليل إضافى على أن القادة، فى وقت الأزمات، يرون ما يريدون رؤيته، مهما توافرت المعلومات السرية والإشارات العلنية.
إنه وضعٌ يُذكِّر بالمعضلة التى واجهتها مصر مع توفُّر معلومات ودلائل من مصادر متعددة حول قرب اندلاع الحرب بعد إغلاق خليج العقبة فى مايو 1967، إلى حد أن عبدالناصر حدد تاريخ العملية العسكرية بنفسه، غير أنه هو ذاته لم يكن مقتنعًا- على ما ظهر لاحقًا- من أن إسرائيل سوف تخوض الحرب، وأنه كان أكثر ميلًا إلى أن حشده العسكرى سوف يُخيف تل أبيب. فى السياسة والحرب، الأمر مرهون فى خاتمة المطاف بما يختار القادة ومتخذو القرار رؤيته والاقتناع به، بغض النظر عن الواقع والحقائق على الأرض. السادات اعتمد لاحقًا على منهج شبيه فى صياغة خطة «الخداع الاستراتيجى» التى أقنعت إسرائيل، ورغم كل الدلائل الواضحة على الأرض، بأن مصر ليست فى وارد خوض معركة عسكرية.
والحال أن روسيا طبقت أساليب الخداع النفسى والحرب الخاطفة بالفعل فى عملية مماثلة فى 2014 لغزو شرق أوكرانيا وجزيرة القرم. اغتنمت موسكو وقتها حالة الاستقطاب السياسى الحاد داخل البلد، مع وقع المفاجأة التى شلت تفكير القوى الغربية. لم تتوقع هذه القوى غزوًا عسكريًا جديدًا فى أوروبا. لم تتصور أن يُقدم بوتين على عمل بهذه الجرأة. عندما وقعت العملية كان أمام القوى الغربية بديلان: إما أن تخوض حربًا كبرى مع روسيا من أجل القرم (التى يُقر الكثيرون بأن لروسيا حقوقًا تاريخية فيها)، وإما أن تصمت عن هذا «الغزو العسكرى الصغير» طلبًا للسلام. بوتين كان يعرف أن الغرب لن يختار الحرب، ولذلك أقدم على المخاطرة التى وضعت بلاده بالفعل فى مرتبة أعلى فى هيكل النظام الدولى، حيث صارت- ورغم تواضعها الاقتصادى- ندًا للولايات المتحدة.
الحاصل أن روسيا لديها حسابات عقلانية، وليست جنونية. بوتين يعرف أن بلاده لا قِبَل لها بمواجهة الغرب فى ساحة الاقتصاد أو التقدم التكنولوجى أو جاذبية النموذج. لا أحد فى العالم يرغب، مثلًا، فى الهجرة إلى روسيا، أو يتطلع إلى الالتحاق بنظامها التعليمى المتقدم. البعض يرى أن إمبراطورية بوتين هى فى الواقع إمبراطورية عسكرية- هيدروكربونية، تستند فى الأساس إلى تصدير الغاز والسلاح، وأيضًا على قوة العسكرية الروسية (وكان لدى روسيا- تاريخيًا ولقرون طويلة- الجيش الأكبر فى أوروبا، وإن لم تكن الدولة الأكثر تقدمًا أو ثراءً!).
ولما كان بوتين يعرف كل هذا، فهو يُدرك تمامًا أن قوته تكمن فى الجانب العسكرى وحده. تلك هى الورقة الأقوى فى يده للارتقاء بمكانة بلاده. وفى نفس الوقت، فإن عامل الضعف الرئيسى فى أوروبا منذ بداية القرن العشرين ظل أمنيًا بالأساس. إن عدم قدرة أوروبا على الدفاع عن نفسها بنفسها هو ما حتّم خوض الولايات المتحدة حربين عالميتين فى مواجهة ألمانيا التى أرادت السيطرة على القارة، ثم حربًا باردة فى مواجهة الاتحاد السوفيتى الذى وقف على أعتابها مُهدِّدًا. وإلى اليوم، مازال الانكشاف الأمنى هو مشكلة أوروبا الرئيسية. الدول الأوروبية تُنفق على التسليح، مجتمعةً، أقل مما تنفقه الولايات المتحدة الأمريكية. الاتحاد الأوروبى عملاق اقتصادى وقزم سياسى ودودة عسكرية، كما يُقال.
غير أن الاتحاد الأوروبى لديه قوة مهمة تتمثل فى جاذبية النموذج. دول كثيرة، من تركيا إلى أوكرانيا، تسعى إلى الانضواء تحت التجربة الأوروبية الناجحة. بوتين يعرف أن أوكرانيا، لو تُركت لحالها، لصارت فى غضون سنوات تدور فى الفلك الأوروبى بصورة أو بأخرى. هو قدّر أن اللحظة الحالية هى الأنسب لسلخ هذا البلد، مرة واحدة وللأبد، من أوروبا. حاول فعل هذا باستخدام الأداة الوحيدة فى حوزته، القوة العسكرية. سعى لتحقيق الغرض بالتهديد، فلم يُفلح فى مواجهة موقف أمريكى صلد. الآن هو فى مأزق لأن انسحابه من دون تحقيق أى شىء سيمثل خسارة حقيقية. الولايات المتحدة تبدو وكأنها تدفعه دفعًا إلى الغزو، وهو يُفكر إن كان هذا الغزو «فخًا غربيًا» لإسقاطه.. وهكذا تستمر المباراة الذهنية والاستراتيجية التى يتابعها العالم حابسًا أنفاسه، والتى سيكون من شأنها أن ترسم خريطة عالمنا فى قادم الأيام.
المصدر : المصري اليوم