
تشهد الساحة الانتخابية المصرية موجة واسعة من التساؤلات عقب النتائج التي أظهرت تفوق عدد كبير من المرشحين المستقلين على حساب مرشحي الأحزاب، وهو مشهد اعتبره البعض دليلًا على نزاهة المنافسة واتساع مساحة الحرية أمام الناخبين. لكن في المقابل، يقرأ آخرون المشهد بصورة مغايرة، معتبرين أن هذه النتائج تعكس تراجع الثقة الشعبية في أحزاب ترفع شعار الجماهيرية دون أن تُبرهن عليه في أرض الواقع.
انحسار الأحزاب … أين “الجماهيرية” التي طالما تحدثوا عنها؟
تبدو المفارقة صارخة؛ أحزاب تصف نفسها بالكبيرة والمؤثرة، لكنها تخسر في دوائر كان يُفترض أنها قواعدها الصلبة. فإذا كانت تلك الأحزاب تمتلك بالفعل هذا الحضور الشعبي، فكيف يتقدم المستقلون في أغلب الدوائر؟ وإذا كان المرشح الحزبي هو “ابن الدائرة” و”صوت التنظيم”، فكيف تسقط هذه الأسماء بهذه السهولة؟ الإجابة ليست بسيطة، لكنها ربما تكشف خللًا في آليات الترشيح داخل بعض الأحزاب، التي ما زال يكتنفها الغموض وعدم الشفافية. وهناك من يشير إلى أن بعض القيادات اكتفت بضمان مقاعدها عبر القوائم، تاركةً مرشحي الفردي يواجهون الصندوق وحدهم، وكأن الرسالة هي: “إن نجح فهو منا، وإن خسر فالقائمة كفيلة بتغطية الفجوة”.
أحزاب كثيرة وحضور سياسي قليل
ازداد عدد الأحزاب في مصر خلال السنوات الماضية “على الورق”، إلا أن الحضور الحقيقي في الشارع لم يتطور بالشكل المتوقع. فالمواطن يرى أسماء كثيرة لكن لا يرى تأثيرًا واضحًا، ولا برامج قادرة على التواصل معه أو إقناعه. وهنا يُطرح تساؤل منطقي: هل فشلت الأحزاب في بناء قواعد حقيقية؟ أم أن الجمهور أصبح أكثر استقلالًا ووعياً؟ فقد وجَّهت النتائج الأخيرة صفعة قوية لعدد من الأحزاب، لا سيما بعد خروج شخصيات ووجوه لها ثِقَل سياسي ونواب حاليين، بينما صعدت أسماء جديدة لم تُكمل سنوات قليلة في العمل العام، لكنها استطاعت الوصول إلى جولة الإعادة ومُقارعة مرشحين بارزين.
المرحلة المقبلة اختبار للقدرة على استعادة الثقة
لم يصل المشهد الانتخابي إلى نهايته بعد، ولا تزال جولات أخرى ستحدد الكثير من الملامح. لكن ما حدث حتى الآن يضع الأحزاب و”مهندسي الانتخابات” أمام مسئولية كبيرة؛ إما إصلاح مسارها وتعديل اختياراتها، وإما الابتعاد أكثر عن الشارع الذي لم يعد يمنح الثقة مجانًا. فالمرشح الحزبي تمامًا كـ “اللاعب المحترف” اختيار جيد يرفع الفريق ويسجل الأهداف، واختيار سيئ قد يقضي على الفرصة بالكامل، مهما كان اسم النادي أو تاريخه.
حالات فردية صنعت الفارق و”تريندات” أعادت تشكيل الوعي
رغم الجدل، شهدت بعض الدوائر صعود شخصيات مستقلة تحولت إلى “نموذج” في الحملات الانتخابية، بعدما استطاعت توظيف وسائل التواصل الاجتماعي وتحويل حضورها إلى قوة انتخابية مؤثرة. ولا تمثل هذه التجارب الفردية مجرد نتائج مفاجئة، بل حالات يجب دراستها بعمق لأنها كشفت أن التأثير الشعبي لم يعد حكرًا على الأحزاب أو التنظيمات، بل على قدرة المرشح على التواصل الحقيقي مع الناس.
نحن أمام لحظة فارقة تُعيد تشكيل صورة المشهد السياسي في مصر. ما بعد هذه الانتخابات لن يشبه ما قبلها، والأحزاب مُطالَبة بإعادة قراءة الواقع، وتقييم اختياراتها، والاقتراب من الشارع بما يكفي لتجنب مزيد من التراجع. فالناخب اليوم أصبح أكثر وعيًا، والمنافسة لم تعد تعتمد فقط على التاريخ أو الاسم، بل على الكفاءة، والحضور، والقدرة على إقناع الجمهور.




