من الواضح أن هناك معضلة فكرية عميقة متأصلة في تيار الإسلام السياسي، خاصة في مصر، حيث يميل أتباع هذا التيار إلى تحليل الواقع بناءً على التمني والرغبات الشخصية بدلاً من الاعتماد على تحليل موضوعي للحقائق. هذه المعضلة تؤدي إلى سلسلة من المغالطات المنطقية التي تجعلهم غير قادرين على مواجهة الواقع أو التعامل مع الأحداث بعقلانية. الإسلام السياسي، يتبنى موقفًا فكريًا يختزل الأمور بناءً على ما يحبون وما يكرهون، مما يؤدي إلى تبني مواقف مبنية على أوهام وتوقعات غير واقعية.
عندما نتحدث عن تيار الإسلام السياسي في مصر، نجد أن هذا التيار قد رسخ مفاهيم تحليلية قائمة على أيديولوجيا غير مرنة، تعتمد بشكل كبير على التفسيرات العقائدية، حيث يتدخل الدين في كل تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية. هذا النهج جعل من الصعب على الإسلاميين تبني أي نوع من النقد الذاتي أو التفكير الواقعي في القضايا التي تواجههم.
أولًا: المغالطة الأولى – التحليل بالتمني والإعجاب بحماس
أحد أبرز الأمثلة على التحليل بالتمني في فكر الإسلام السياسي هو الموقف من حركة حماس. الإسلاميون، وبخاصة الإخوان المسلمون، لديهم إعجاب شديد بحماس بوصفها تمثل “المقاومة الإسلامية” في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. بناءً على هذا الإعجاب العاطفي، يعتقد الإسلاميون أن حماس ستحقق الانتصار في كل معركة تخوضها، متجاهلين الفروق الهائلة في القوة العسكرية والدعم الدولي بين حماس وإسرائيل.
في هذا السياق، نجد أن التيار الإسلامي يتوقع بشكل دائم انتصار حماس، ليس بناءً على تحليل واقعي للظروف السياسية والعسكرية، بل بناءً على رغبة دفينة في رؤية إسرائيل مهزومة وزوالها كحقيقة. ومن هنا، يستمرون في تقديم توقعات مبنية على الأماني، مثل أن “إسرائيل لن تدخل غزة بريًا” لأنها ستغوص في “رمال غزة”. هذه المغالطة لا تعبر عن أي نوع من الفهم الواقعي للتوازنات العسكرية أو السياسية، بل تعكس الرغبة العاطفية في رؤية “المقاومة” تتفوق على القوة العسكرية الإسرائيلية.
هذا النوع من التحليل يؤدي إلى نتائج كارثية، حيث يُفاجأ أتباع التيار الإسلامي عندما تكون النتائج مغايرة لتوقعاتهم. ففي كل مرة تتدخل إسرائيل عسكريًا في غزة، يحدث العكس تمامًا لما كانوا يتمنونه، مما يؤدي إلى صدمة في صفوفهم وتبرير للفشل بدلاً من إعادة النظر في أسس تحليلهم للأحداث.
ثانيًا: المغالطة الثانية – كراهية السيسي وتوقع انهيار حكمه
لنأخذ مثالًا آخر من السياق المصري، وهو موقف تيار الإسلام السياسي من الرئيس عبد الفتاح السيسي. الإسلاميون، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، يكرهون السيسي بشكل واضح، ويرونه العدو الأكبر الذي أزاحهم عن السلطة بعد أحداث 30 يونيو 2013. هذا الكره الشديد قادهم إلى توقع أن الشعب المصري سينتفض ضد حكم السيسي في أي لحظة، وأن مظاهرات حاشدة ستقوم بعزله من منصبه.
ولكن، كما في حالة حماس، هذه التوقعات لا تكون مبنية على تحليل واقعي لموقف الشعب المصري أو الظروف السياسية الداخلية. بل كانت هذه التوقعات نابعة من رغبتهم العميقة في رؤية الرئيس عبد الفتاح السيسي ينهار ويترك السلطة. على مدار السنوات، انتظر الإسلاميون حدوث “ثورة جديدة” أو “انتفاضة شعبية”، ولكن ذلك لم يحدث، مما جعلهم يقعون في فخ التبرير المستمر لفشل توقعاتهم.
هذا النوع من التحليل بالتمني يؤدي إلى انفصال التيار الإسلامي عن الواقع السياسي المصري، حيث يستمرون في العيش في وهم أن السيسي سيسقط قريبًا، بينما الواقع يشير إلى أن الوضع السياسي في مصر مستقر إلى حد كبير، وأن المعارضة للإسلاميين ما زالت قوية.
ثالثًا: المغالطة الثالثة – كراهية إسرائيل والتوقعات غير الواقعية
أحد أبرز مظاهر التحليل بالتمني يظهر في موقف تيار الإسلام السياسي من إسرائيل. الإسلاميون يرون إسرائيل كعدو أبدي، وينتظرون “زوالها” باعتباره حتمية دينية. ولكن المشكلة تكمن في أنهم يتوقعون حدوث ذلك بناءً على مشاعر الكراهية تجاه إسرائيل وليس استنادًا إلى تحليل واقعي للأوضاع.
الإسلاميون كثيرًا ما يروجون لفكرة أن إسرائيل “مصيرها إلى زوال”، وأن المقاومة الإسلامية ستنتصر في النهاية. لكن هذه التوقعات لا تأخذ في الحسبان الحقائق الميدانية، مثل تفوق إسرائيل العسكري والدعم الدولي الذي تتلقاه. ونتيجة لذلك، يستمرون في تقديم توقعات غير واقعية حول زوال إسرائيل، متجاهلين تمامًا المعطيات الحقيقية على الأرض.
هذا النوع من التحليل لا يخدم التيار الإسلامي بأي شكل، بل يزيد من عزلته الفكرية والسياسية. فعندما تكون توقعاتهم غير واقعية، يتمسك التيار بأوهامه، ويرفض الاعتراف بالواقع حتى في مواجهة الفشل المتكرر.
رابعًا: الهجوم على المخالفين – رفض التحليل الواقعي
أحد أهم سمات التحليل بالتمني في تيار الإسلام السياسي هو الهجوم الشرس على كل من يخالفهم الرأي أو يحلل الأمور بطريقة واقعية. إذا قام أحد المحللين بتقديم رؤية مختلفة عن رؤيتهم، يتم اتهامه فورًا بأنه “عميل” أو “متآمر”، وهذا الهجوم يعكس عمق الأزمة الفكرية التي يعاني منها هذا التيار.
على سبيل المثال، بعد 7 أكتوبر 2023، توقع بعض المحللين أن إسرائيل ستدخل غزة بريًا وستسحق حماس، وأن هذا سيكون له تداعيات كارثية على سكان غزة. هذه التحليلات كانت مبنية على معطيات واقعية، ولكن الإسلاميين رأوا في ذلك نوعًا من “التحريض” ضد المقاومة، واتهموا المحللين بالتآمر مع إسرائيل.
هذا السلوك يعكس عدم قدرة التيار الإسلامي على قبول أي نوع من النقد أو التحليل الواقعي. بالنسبة لهم، أي رأي مخالف لرغباتهم يتم اعتباره خيانة أو تأييدًا للعدو. هذا الموقف يجعل من المستحيل عليهم إجراء حوار عقلاني أو بناء حول القضايا السياسية.
خامسًا: فشل التخطيط الاستراتيجي – التحليل بالتمني يعطل التقدم
التحليل بالتمني لا يقف عند حدود المواقف الفكرية فقط، بل يمتد إلى تعطيل القدرة على التخطيط الاستراتيجي داخل تيار الإسلام السياسي. عندما تكون القرارات مبنية على الأمنيات وليس على الوقائع، فإن التخطيط يصبح ضعيفًا وغير قابل للتنفيذ.
لنأخذ مثالًا من تاريخ الإخوان المسلمين في مصر بعد ثورة 25 يناير 2011. نجحت الجماعة في القفز علي الحكم، ولكنها قررت الدخول في مواجهات سياسية متسرعة بناءً على اعتقادها بأن الجماهير ستدعمها بشكل دائم. كان هذا التصور مبنيًا على تمني النصر السريع والوصول إلى السلطة، دون أن تأخذ في الحسبان التحديات السياسية والاقتصادية التي تواجه البلاد.
نتيجة لذلك، فشلت الجماعة في استيعاب الواقع السياسي المصري، وأدى ذلك إلى انهيار حكمها في 2013. هذا الفشل لم يكن مجرد صدفة، بل هو نتيجة لتحليل بالتمني وعدم قدرة على التخطيط الاستراتيجي بناءً على الحقائق.
سادسًا: التحليل بالتمني يعمق العزلة الفكرية
التحليل بالتمني لا يؤدي فقط إلى اتخاذ قرارات سياسية خاطئة، بل يعمق أيضًا عزلة التيار الإسلامي عن الواقع المحيط به. عندما يعتمدون على تفسيرات مبنية على رغباتهم الخاصة وأمانيهم، يصبح من الصعب عليهم التواصل مع القوى السياسية الأخرى أو مع المجتمع بشكل عام.
هذا العزل الفكري يؤدي إلى خلق “فقاعة” فكرية يعيش فيها الإسلاميون مع بعضهم البعض، ويتبادلون الأوهام والتفسيرات العقائدية دون أن يواجهوا الواقع. هذه العزلة تعمق من الفجوة بين الإسلاميين والمجتمع، وتجعلهم غير قادرين على تقديم حلول واقعية للأزمات التي تواجه البلاد.
سابعًا: التصحيح المطلوب – ضرورة الفصل بين العقيدة والتحليل السياسي
إذا أراد تيار الإسلام السياسي في مصر أن يتقدم ويصبح قوة سياسية حقيقية، فعليه أن يبتعد عن التحليل بالتمني ويعتمد على الحقائق والمعطيات الواقعية. هذا يتطلب تغييرًا جذريًا في طريقة التفكير، حيث يجب أن يكون هناك فصل بين العقيدة الدينية والتحليل السياسي.
من المهم أن يتبنى الإسلاميون نهجًا نقديًا يعتمد على التحليل العلمي للأحداث، بدلاً من الاعتماد على الأماني والرغبات الشخصية. هذا التحول سيسمح لهم بتقديم رؤية سياسية ناضجة تستند إلى الواقع، وليس إلى الأوهام.
الخاتمة: الإسلام السياسي بين التحليل بالتمني والواقع المصري
في ضوء التحليل السابق، يتضح أن تيار الإسلام السياسي في مصر يواجه تحديات فكرية عميقة ناجمة عن الاعتماد على “التحليل بالتمني”، مما يعوق قدرته على التكيف مع الواقع السياسي والاجتماعي المتغير. يعيش الإسلاميون في أوهام، وعليهم أن يمارسوا النقد الذاتي ويعترفوا بالحقائق المعقدة التي تحكم المشهد السياسي.
يجب على الإسلاميين تطوير فكرهم وتحقيق مراجعة نقدية شاملة لرؤاهم وممارساتهم. كما يجب أن يتجهوا نحو التحليل العلمي والموضوعي، مستندين إلى معطيات واقعية.