حاتم عبدالرحيم
أصدر مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء، تحليلاً جديداً تناول من خلاله مفهوم “السياسة الصناعية” موضحاً أن يمكن تعريفه بأنه الجهود التي تبذلها الحكومات لدعم صناعات محددة، مثل: الصناعات الثقيلة (الحديد والصلب، والنفط، والفحم، والسفن)، والصناعات العسكرية، والفضائية، وصناعة أشباه الموصلات، والمركبات الكهربائية، وتلعب هذه السياسات دورًا مهمًّا في دعم الأمن القومي والقدرات التنافسية للصناعات؛ وذلك من خلال مجموعة من الأدوات تتمثل في الإعانات، والحوافز الضريبية، وتطوير البنية التحتية للنهوض بالصناعة، ودعم البحث والتطوير، والسياسات الجمركية الحمائية (سياسات تهدف إلى حماية المنتج الوطني عن طريق مجموعة من الأدوات تعوق ولوج المنتج الأجنبي). وقد تم استخدام السياسات الصناعية في السنوات الماضية كجزء من استراتيجية النمو؛ بهدف الحفاظ على الاستقرار المالي، وتأسيس “شركات وطنية رائدة”، ودعم الأمن القومي، وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الصناعات المهمة، والنمو الشامل، ورفع قدرات التوظيف، وإنعاش قطاع التصنيع.
وفي هذا الصدد، روَّجت دول عديدة لصناعات معينة، مثل: أشباه الموصلات في تايوان، والطاقة المتجددة في ألمانيا، والفضاء في فرنسا، وفي ظل النزعة القومية الاقتصادية والتوترات الجيوسياسية التي يشهدها العالم فمن المرجح أن يظل إنشاء شركات وطنية رائدة هدفًا سياسيًّا مهمًّا للحكومات التي تسعى إلى تعزيز مصالحها الوطنية.
استعرض التحليل الدور الذي لعبته السياسات الصناعية في الاقتصادات، ففي الفترات السابقة، أطلقت العديد من الدول سياسات صناعية، بما في ذلك ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية وأغلب دول أمريكا اللاتينية والصين، وحققت الدول درجات متفاوتة من النجاح، فبالنسبة لإنجلترا تطورت صناعة الصوف في القرن الرابع عشر باستخدام التعريفات الجمركية وقيود التصدير وبعض العوامل الأخرى، أما بالنسبة لألمانيا فقد فرضت في القرن التاسع عشر تعريفات جمركية لحماية كلٍّ من الزراعة والصناعة، كذلك اتبعت الصين العديد من السياسات الصناعية في إطار الخطة الاستراتيجية “صنع في الصين 2025” والتي تهدف إلى تعزيز التصنيع المحلي عالي التقنية وحددت الاستراتيجية الهدف العام المتمثل في رفع المحتوى المحلي من المكونات والمواد الأساسية إلى 70% بحلول عام 2025. كذلك رفع نسبة الإنفاق على البحث والتطوير كنسبة مئوية من المبيعات من 0.95% في عام 2015 إلى 1.68% بحلول عام 2025.
ويزعم العديد من الخبراء أن السياسة الصناعية في آسيا كانت سببًا في تغذية شرق آسيا، وتحقيق التنمية الاقتصادية السريعة التي شهدتها دول المنطقة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث عززت اليابان وكوريا الجنوبية صناعات الصلب وأشباه الموصلات باستخدام مجموعة من القيود التجارية والاستثمارية والإعانات وغيرها من السياسات، وبحلول الثمانينيات أصبحت اليابان قوة اقتصادية عظمى تنافس الولايات المتحدة الأمريكية، وقد يرى البعض أن هذا التقدم كان نتيجة للسياسات التجارية التي اتخذتها.
كذلك دعمت كوريا الجنوبية اقتصادها في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين من خلال تطوير صناعة الحديد والصلب وبناء السفن والإلكترونيات والسيارات وأدى ذلك إلى إنشاء التكتلات الضخمة مثل: سامسونج و”LG” كما قدمت دعما كبيرًا لصناعة أشباه الموصلات، لتصبح صاحبة واحدة من أكبر الشركات العالمية، كذلك لعبت الحكومة في تايوان دورًا حاسمًا في تطوير صناعة أشباه الموصلات من خلال تمويل الأبحاث والاستعانة بالمهندسين المدربين في الولايات المتحدة.
كما اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية حزمة من السياسات الصناعية، وكانت هذه السياسات مدفوعة – إلى حد كبير – بمنافسة الاتحاد السوفيتي، فتم إنشاء وكالة مشروعات الأبحاث الدفاعية المتقدمة التابعة للبنتاجون (DARPA)، والتي تم إنشاؤها ردًّا على إطلاق الاتحاد السوفيتي للقمر الصناعي سبوتنيك، أول قمر صناعي، وكان لها الفضل في تمهيد الطريق للإنترنت الحديث والنظام العالمي لتحديد المواقع (GPS)، كذلك تم إطلاق مشروع مانهاتن لتطوير الصناعة العسكرية في أثناء الحرب العالمية الثانية، وقد مثَّل الإنفاق على المشروع نحو 0.4% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة من (1942- 1946).
كذلك تم إنشاء وكالة مشروعات الأبحاث المتقدمة في مجال الطاقة (the Advanced Research Projects Agency-Energy)، التابعة لوزارة الطاقة الأمريكية في عام 2007 من أجل الوصول إلى طاقة نظيفة وبأسعار معقولة. وتقدم وكالة مشروعات الأبحاث المتقدمة للطاقة تمويلات لمشروعات الطاقة، وتتراوح الميزانية السنوية للوكالة من 180 مليون دولار إلى 400 مليون دولار.
وأشار التحليل إلى عودة اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بمفهوم السياسة الصناعية من جديد، مشيراً إلى أنه على الرغم من فقدان هذه السياسة لشعبيتها في الثمانينيات والتسعينيات في ظل تأييد واشنطن لسياسات السوق الحرة وخصخصة مؤسسات الدولة وتعزيز التجارة الحرة، إلا أن الولايات المتحدة أولت في الوقت الحالي اهتمامًا كبيرًا بالسياسات الصناعية بهدف التحكم في السوق المحلية وتوجيهه نحو صناعات محددة، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى صعود الصين، والتوترات العالمية، والتهديدات المتمثلة في تغيرات المناخ، ونقاط الضعف في سلاسل التوريد التي كشفت عنها جائحة كوفيد-19، وبناءً على ذلك أطلق رئيس الولايات المتحدة الأمريكية “جو بايدن” ثلاث مبادرات رئيسة تهدف إلى رفع القدرات الصناعية للبلاد، وتشمل كلًّا من قانون الاستثمار في البنية التحتية والوظائف لعام 2021، وقانون خفض التضخم لعام 2022 (وهو قانون يهدف إلى كبح التضخم عن طريق تقليل العجز، وخفض أسعار الأدوية، والاستثمار في إنتاج الطاقة المحلية مع تعزيز الطاقة النظيفة؛ حيث سيخصص القانون حوالي 400 مليار دولار في خلال العقد القادم لخفض الانبعاثات الكربونية وكذلك خفض تكلفة الطاقة النظيفة) وقانون الصناعات التحويلية والعلوم لعام 2022.
وتم تخصيص نحو 50 مليار دولار لتصنيع أشباه الموصلات محليًّا، ونحو 400 مليار دولار لاستثمارات التكنولوجيا الصديقة للبيئة، كذلك مثَّل حجم الإنفاق الخاص على السياسة الصناعية في الفترة من (2021 -2022) نحو 0.4% من حجم الناتج المحلي الإجمالي، بينما مثَّل الإنفاق العام والحوافز الضريبية نحو 0.3% من حجم الناتج المحلي الإجمالي. وتتوقع وكالة ماكينزي إنفاق الفيدرالي نحو 2 تريليون دولار إعانات على مدى السنوات العشر المقبلة، وهو ما أسهم بدوره في انتقال استثمارات الشركات الأجنبية إلى الولايات المتحدة للاستفادة من التمويل والإعانات الأمريكية، فعلى سبيل المثال وقَّعت اليابان مع الولايات المتحدة الأمريكية اتفاقية لتصنيع المعادن المُهمة المستخدمة في صناعة السيارات الكهربائية وسوف تعفي هذا الاتفاقية اليابان من الضريبة الأمريكية، كذلك يعتزم الاتحاد الأوروبي إبرام صفقة مماثلة مع الولايات المتحدة. وتدرس شركة صناعة البطاريات السويدية نورثفولت (Northvolt) – واحدة من ضمن شركات كثيرة تعتزم إقامة استثمارات لها في الولايات المتحدة الأمريكية – فرص استثمارات جديدة لها في أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية.
وأكد التحليل أن عودة السياسات الصناعية سيترتب عليها عدداً من النتائج، فمن المؤكد أنها ستخلق موجة من التغييرات التنظيمية في الدول، فبعد أن أقرَّت الولايات المتحدة الأمريكية قانون خفض التضخم، شرع الاتحاد الأوروبي في اتخاذ سياسته الصناعية المتعلقة بالمناخ، على سبيل المثال: سياسة دعم تصنيع وتطوير البطاريات التي أطلقها الاتحاد في يوليو 2023، كذلك أصدر الاتحاد قانون الرقائق الذي يهدف إلى زيادة نسبة مساهمة الاتحاد في الإنتاج العالمي من الرقائق بنسبة تتراوح بين نحو 10% و20%، وتقديم نحو 43 مليار يورو لتعزيز صناعة الرقائق الإلكترونية في القارة الأوروبية.
ويرجع إصدار الاتحاد هذه السياسة إلى التخوف من أن يؤدي الدعم الأمريكي الخاص بقانون خفض التضخم لاستخدام الطاقة النظيفة إلى توجه الاستثمار خارج أوروبا. كذلك أقرَّت كلٌّ من كندا وإنجلترا والصين وكوريا الجنوبية بعض السياسات لدعم التصنيع المحلي، فعلى سبيل المثال: أقرت كوريا الجنوبية “قانون رقائق K” (“K-Chips Act”) لتعزيز الاستثمار في الرقائق الإلكترونية.
وبناءً على انتشار السياسات الصناعية في الوقت الحالي، ينبغي على الشركات أن تولي اهتمامًا للاستفادة من هذه السياسات؛ حيث تقدم العديد من السياسات الصناعية الجديدة حوافز للشركات لتحقيق أهدافها المناخية. لذلك يتعين على الشركات أن تُعيد النظر في مبادراتها المتعلقة بالمناخ وخفض الانبعاثات؛ فقد تتمكن الشركات من تسريع أهدافها المناخية من الدعم الحكومي أو إعادة تخصيص رأس المال المخصص لخفض الانبعاثات لاستخدامات أخرى.
وتناول مركز المعلومات في تحليله السياسات الصناعية في مصر، حيث تُعَد الدولة المصرية واحدة من الدول التي أولت اهتمامًا بالسياسات الصناعية في القرن الماضي وحتى أوائل التسعينيات، فأطلقت خطة للتصنيع في الخمسينيات تتضمن تقديم الدعم عن طريق الرسوم الجمركية المرتفعة على الواردات، والقروض الميسرة للصناعات الثقيلة مثل الحديد والصلب والمواد الكيميائية، وفي التسعينيات تم إصدار برنامج التعديل الهيكلي، وقد تضمن تحرير الأسعار والتجارة وخفض الدعم.
كما عملت مصر مؤخرًا على تعزيز وتطوير الصناعة من خلال محاور رئيسة تحت مظلة استراتيجية مصر الرقمية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات 2030 والاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي، وهي:
- أولاً: تطوير البنية التحتية الرقمية: حيث تم تخصيص 1.6 مليار دولار أمريكي منذ منتصف عام 2016.
- ثانيًا: رفع كفاءة الاتصال الرقمي، وتوفير إنترنت سريع وبأسعار معقولة، مع توسيع نطاق التغطية له وللكهرباء؛ ومن بين الإجراءات المتخذة في هذا المجال: الاستثمارات في شبكات 4G/ 5G وشبكات الألياف الضوئية من قبل القطاعين العام والخاص، وإطلاق القمر الصناعي “طيبة” لزيادة تغطية المكالمات والإنترنت، كذلك استبدال كابلات الألياف الضوئية بالكابلات النحاسية، والاستثمار في البنية التحتية لشبكة الجيل الخامس.
- ثالثًا، أصدرت مصر لوائح جديدة للاقتصاد الرقمي 2018 تتيح خيارات الدفع الرقمي من خلال قانون المدفوعات الإلكترونية وقانون حماية البيانات الشخصية.
- رابعًا، تعزيز الرقمنة في الشركات، وتُقدِّم الدولة حوافز جديدة لتسريع التحول الرقمي في الشركات ودعم البحث والتطوير في هذا المجال.
- خامسًا، تعزيز الشركات الناشئة؛ حيث أنشأت جهاز تنمية المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر في عام 2017، وعملت على سد فجوة التمويل لها، وأطلقت المبادرات والسياسات لدعم الشركات الناشئة، ولا سيما تلك العاملة في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والإلكترونيات.